Death

الموت 1 ، مقدمة عن الموت ، النهي عن تمني الموت لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي

بتاريخ: 2000-01-01

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا وزدنا علماً وأرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة الكرام :
قرأت قاعدةً في علم الصحة اجلس إلى الطعام وأنت تشتهي ، وقم عنه وأنت تشتهي ، لو طبقت هذه القاعدة على دروس العلم لكانت رائعة ، يعني عالج الموضوع الذي يحتاجه الناس، يشتهون معالجته ولا تطيل فيه إلى درجة أنهم يملونه ، وأنا من عادتي إن شاء الله تعالى أن أعالج موضوعاً حينما أشعر أن الأخوة الكرام قد استوعبوه وأن المزيد فيه قد يقودهم إلى السأم ، نعود إليه بعد أشهر عدة نعود إليه وقد اشتقنا إليه ، يوجد أخ كريم لفت نظري وقال لي : موضوع الموت لم يعالج في هذا المسجد معالجة طويلة ، يمر سراعاً ، أما كمعالجة متأنية مع النصوص فهذا لم يحدث ، فقلت له : جزاك الله خيراً .
فأردت في هذا الدرس أن أبدأ موضوعاً يتعلق بالموت لكن لا يقولن أحدكم لمَ التشاؤم ؟ الأغبياء يتغنون بالماضي ، والأقل غباءً يعيشون الحاضر ، أما العقلاء ، الأذكياء ، العباقرة يعيشون المستقبل . فالذي يعيش المستقبل هو العاقل ، والذي يعيش الماضي هو الذي يجتر ذاته ، والذي يعيش الحاضر بين بين .
لذلك فالدول المتقدمة بالمفهوم الحضاري دائماً تخطط لسنوات مستقبلية ، والدول الأخرى تواجه الأحداث ، والدول النائمة أو النامية تتغنى في الماضي ، فالتغني بالماضي لا يقدم ولا يؤخر ، أما أن تواجه الأحداث أولاً بأول ، والمبادرة بيد الأعداء يحدثون فعلاً وأنت تردّ على هذا الفعل قد تنجح أو لا تنجح ، أما البطولة أن تعيش المستقبل .
على مستوى فردي كل واحد له حياة شخصية ، إذا قلنا لأحد الأخوة الكرام يجب أن تعيش المستقبل ، ما هو أخطر حدث في المستقبل ؟ مغادرة الدنيا ، إلى أين ؟ الإنسان يسافر ويرجع ، يذهب في نزهة ويعود إلى البيت.
يقوم بمهمة ثم ينام في البيت ، يأتي بعد شهر بعد سنة ، يذهب إلى بلد بعيد يقيم شهراً أو شهرين ، سنة أو سنتين ، ثم يعود ، أما هذه الرحلة التي لا عودة منها إلى أين ؟ وماذا فيها ؟ وما العملة الرائجة في هذه الرحلة ؟ أنا أعتقد أن هذا ليس من باب التشاؤم ، ليس من باب السوداوية ، وليس من باب أن تعيش في جو مأساوي ، لا أبداً ، فالموت مصير كل حي ، الموت نهاية كل إنسان ، الموت لا بد من أن نتجرع كأسه شئنا أم أبينا ، ولم يُعفَ من هذا التجرع نبي مرسل ولا سيد الخلق ولا ملك عظيم ، ولا غني كبير ، ولا طبيب ماهر ، الموت مصير كل حي .
كل مخلوق يموت ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت ، والليل مهما طال فلابد من طلوع الفجر، والعمر مهما طال فلابد من نزول القبر .

كل ابن أنثى وإن طالت سلامت ه يوماً على آلةٍ حدباء محمول
فـإذا حملت إلى القبور جنازةً  فـاعلم بأنك بعدها محمول

قبل شهر تقريباً لنا أخ كريم وأبوه كما أظنه صالحاً ، ولا أزكي على الله أحدا ، اشترى قبراً قبل عام تقريباً وكلَّ خميس يذهب إلى هذا القبر ، قبل أسبوعين من وفاته نزل إلى القبر وجاء بحمل رمل مزار ومده وقال هكذا أريح لي ، وبعد أسبوعين كان نزيل هذا القبر .
أحد العلماء الأجلاء وأنا أحترمه جداً ، اشترى قبراً قبل خمس سنوات وكلَّ خميس يزور القبر ، وعلى الشاهدة مكتوب اسم هذا العالم ، يا ابني هنا مصيرنا ، ثم دخل القبر ولقي عمله الطيب ، فالقبر صندوق العمل .
فالتفكر بالموت لا علاقة له بالتشاؤم أبداً ولا بالسوداوية هذا كلام الجهلة ، هذا الحدث الذي لا بد منه شئنا أم أبينا وليس له قاعدة فقد يخطف الإنسان فجأةً وبأي عمر ففي الثلاثينات موت ، وفي العشرينات ، بالأربعينات ، بالخمسينات ، الموت ليس له قاعدة إطلاقاً ، قاعدته الوحيدة أنه ليس له قاعدة ، الشيء الذي تستعد له وتفكر فيه دائماً لا تفاجأ به ، بل أنت قد أخذت احتياطات بالغة .
تصور أن طالباً مُجداً لحظة الامتحان لا تغادر ذهنه طوال العام الدراسي فحينما يأتي شهر حزيران ويدخل إلى قاعة الامتحان وتوزع الأسئلة لا يخشى ولا يهاب فالكتاب قرأه مرات ومرات وحفظه وحلله وفهمه وأجاب عن أسئلته ، واستوعبه تراه في هذه الساعات الثلاث في أسعد لحظات حياته لأنه يقطف ثمار عام بأكمله .
وصدقوني أيها الأخوة ولا أبالغ ، المؤمن حينما يدنو أجله يكون في أسعد لحظات حياته لأنه في هذه الساعة يقطف ثمن عبادته كلها ، كل حياته صلواته ، ذكره ، استقامته ، ضبطُ جوارحه ، ضبطُ أعضائه ، ضبطُ دخله ، تربية أولاده ، دعوته إلى الله ، تجشمه التعب في سبيل الله ، انتهى التعب وجاء الإكرام ، انتهى التكليف وجاء التشريف ، انتهى العمل

وجاء الجزاء ، انتهى الكدح وجاء التكريم ، انتهى السعي وجاء ترجمة قوله تعالى :

﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ﴾

(سورة الزمر)

النظرة السوداوية للموت ينبغي ألا تكون في حياة المؤمن ، مرحباً بالموت كما قال بعض أصحاب رسول الله ، والكلمة المشهورة جداً والتي تعرفونها ، كان القادة المسلمون يقولون لأعدائهم جئناك بقوم يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة ، لكن والله الذي لا إله إلا هو لو كان الإنسان شارداً ، أو عاصياً ، أو بعيداً ، فذكر الموت ينخلع له قلبه فهو شيء مخيف .
مرّةً سألت طبيباً مختصاً بالقلب : صف لي بعض حالات النزع ، قال : خوف ورعب ، أحياناً يضغط على جبهته ، وأحياناً يصرخ بويله وأحياناً يأتي الإنسانَ عند الموت ألمٌ ينسيه كل متع الدنيا يقول لم أر خيراً قط وأحياناً يأتي الموت كعرس للمؤمن ، كتحفة للمؤمن .
موضوع الموت طويل ، لكن الذي أراه إن شاء الله من حين إلى آخر أن نعالج بعض موضوعاته المتسلسلة وله موضوعات كثيرة ، لكن طبعاً الموضوع يبدأ في الدنيا ، فمثلاً لقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تمني الموت وهذا أول موضوع ، والموضوع الثاني خيركم من طال عمره وحسن عمله ، وهو موضوع متوازن جداً ، فموضوع الموت فيه بضع
عشرات الموضوعات ، طبعاً في هذه الأسابيع إن شاء الله إذا أكرمنا الله وهو نعالج بعضها .
قصة ذكرتها لكم كثيراً لكن مفيدة جداً أذكركم بها ، لي صديق وهو أحد أقربائي مدرس لامع ذكي ، حياته منضبطة ، جالس مع أصدقائه في سهرة ممتعة ، وهو ذو دعابة فقال لهم أنا سوف أموت بعد حين طويل ، لماذا ؟ وكانت إجابته منطقية جداً ، قال : أنا وزني خفيف ، طعامي قليل ، أسير على قدمي كثيراً ، لا أدخن ، لا أحمّل الأمور فوق طاقتها ، لا أحمِل هموماً .
طبعاً كلامه علمي هذه كلها أسباب الموت ، الشدة النفسية أحد أسباب الموت ، الوزن الزائد أحد أسباب الموت العاجل ، الصدمات ، التدخين، والسهرة كانت يوم السبت في أحد أحياء ركن الدين ، السبت التالي كان هو نفسه تحت التراب ، لا قاعدة للموت إطلاقاً ، أحد إخواننا الكرام قال لي : أنا ولدت في أحد أحياء دمشق المتواضعة ونحن فقراء ، وكل أسرة منّا لها غرفة واحدة ، قال لي : أنا وأهلي في غرفة ، الغرفة الثانية لبيت عمي ، بيننا حائط طبلة في التعبير القديم ، زوجة عمه أصيبت بمرض عضال ، جاء الطبيب وأخطرها ، وقال لنا اكتبوا النعوة ، واستعدوا للموت ثم تحسنت تحسناً طفيفاً شيئاً فشيئاً ، ثم شفاها الله عز وجل ، قال لي هذا المتحدث : يوم قال الطبيب اكتبوا النعوة أنا ولدت في الغرفة المجاورة ، ولادته كانت في الساعة التي قال فيها الطبيب اكتبوا النعوة ، قال ثم : كبرت سبع سنوات ودخلت المدرسة ، وتخرجت من المدرسة وحللت مكان والدي في العمل التجاري ، ثم اشترينا بيتاً آخر في أحد أحياء دمشق المرموقة ، وجاءت امرأة عمي التي قال الطبيب : اكتبوا نعوتها جاءت بعد خمسةٍ وأربعين عاماً وزارتني في البيت .
هذه أطول مسافة سمعتها بعد قول الطبيب اكتبوا النعوة : خمس وأربعون سنة ، لي صديق آخر أصيب بمرض وقال الطبيب غادروا به المستشفى انتهى ، وكتب أخوه نعوته و كان بيتي يومها في العفيف ، وعندي درس الفجر قلت لنفسي: سوف أقرأ النعوة الآن على الجدران ، كنت أبحث عن النعوة لأني قبل أن أنام قيل لي انتهى ، وغادروا المستشفى والطبيب قال: انتهى ، وأحد أخوته كتب النعوة ، فلم أر النعوة صباحاً ، ثم قالوا : تحسن تحسناً طفيفاً وعاش بعد ذلك سبع سنوات ، والذي كتب النعوة مات قبله ، فليس للموت قاعدة أبداً والوقائع كثيرة ، على كلٍ نحن أمام حدث مستقبلي و لا نعلم متى يحل علينا والصحة لا علاقة لها ، قد يفجأ الموت إنساناً في أعلى درجات الصحة ، وقد يبقى الإنسان طريح الفراش ثلاثين سنة مشلولاً ، ويتمنى أقرب الناس إليه أن يموت ، لذلك أحدهم دعا دعاء : اللهم من أراد بي سوءاً فأصبه بشلل في يديه وعمىً في عينيه ، وسرطان في دمه حتى يتمنى الموت فلا يجده .
فالموت أحياناً من رحمة الله الكبرى ، حدثني أخ قال : لي والدة نربطها من أيديها ومن رجليها على السرير ، قلت له لماذا ؟ قال : لو أطلقنا يديها لأكلت غائطها وخلعت كل ثيابها وبقينا اثنتي عشر سنة نربطها مضجعة على ديوان يداها مربوطتان ، فالموت رحمة بهذه المرأة .
لذلك اقرءوا الآية الكريمة :

﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴾

( سورة النحل )

ومرة ذكرت لكم قصة مشهورة مؤثرة أذكّركم بها: كنت في مدرسة ثانوية و عندي ساعة فراغ فدخلت إلى غرفة مدير الثانوية ، وجرى حديث ودي يشكو من أشياء كثيرة ، فقال لي : قررت أن أسافر إلى الجزائر وكان معمولاً بنظام إعارة المدرسين للدول العربية الشقيقة، قال لي : قررت أن أغيب خمس سنوات ولن آتي إلى الشام في الصيفيات الأربع ، فأقضي صيفية في فرنسا والثانية في إيطاليا ، والثالثة في بريطانيا ، والرابعة في إسبانيا ، وخلال هذه الأشهر أتملى من متاحف كل دولة وبيئتها الريفية ومن معالمها ومن حضارتها وأختلط بأهلها، أريد أن أطلع على هؤلاء القوم كيف يعيشون ، ثم أعود إلى الشام بعد خمس سنوات وأشتري محلاً تجارياً أبيع فيه تحفاً شرقيةً ، وهذه التحف ليس لها إشكاليات ، لا تفسد وليس لها تسعيرة مع التموين ، وأجعل من المحل منتدى فكرياً لأصدقائي ، وأترك أولادي يدبرون هذا المحل وتابع ولا أذكر ماذا قال ، مشروع لعشرين سنة قادمة ، ضيّفني كأساً من الشاي وانصرفت من عنده إلى صفي ثم ذهبت إلى بيتي ظهراً وخرجت مساءً لعمل آخر وأنا في طريقي عائداً إلى البيت مساءً والله الذي لا إله إلا هو رأيت نعوته على الجدران في اليوم نفسه ، لقائي معه الساعة الحادية عشرة ظهراً ، الساعة السابعة مساءً رأيت نعوته على الجدران ، فالموت يأتي فجأةً والموت صندوق العمل ، فهذا الحدث بل هذا الضيف الذي يأتي فجأةً ولم يغير موقفه مهما رجوته ، انتظره علينا سنة ثانية حتى نبيع هذه البيوت ، حتى نصب السقف ، لدينا بضاعة في الجمرك حتى نخلصها فلا يعبأ برجاءاتنا ، هذا الموت خطير
جداً ولا حدث أخطر منه والدليل قال تعالى :

﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾

( سورة الملك )

والموت مشكلته لا يذكر في كثير إلا قله ، أكبر حجم مالي تخسره في ثانية واحدة ، توقف القلب ماذا تملك من أموال منقولة أو غير منقولة صارت لغيرك ، قدمت لك هدايا ثمينة في حياتك ، لك مركبة تعتني بها ، لا يركبها أحد سواك تؤخذ مفاتيحها و كانت لا يستعملها أحد من أولادك ، جاء الموت فانتهى الأمر ولم تعد تملك شيئاً والكفن ليس له جيوب ، بضعة أمتار من الخام الأبيض ،في حين كانت بدلته ثمنها ثمانون ألفاً والآن يلفوه بخام ثمنه عشرون ليرة ، هذا هو الموت ، الموت خطير جداً مغادرة بلا عودة ، في بعض البلاد العربية التي فيها نفط والناس يتهافتون على العمل بها ، هناك عبارة إذا كتبت على جواز شخص تصيبه جلطة ويقف قلبه ، إذا كتبوا له المغادرة بلا عودة ، مغادرة مع عودة ليس وراءها مشكلة ، فهو يزور أهله ويعود ، أما لو كتب على الجواز مغادرة بلا عودة ، ينخلع قلبه وهذه العبارة سوف تكتب على جوازاتنا جميعاً عند الموت مغادرة بلا عودة ، ولا أحد يسأل عن الميت : لماذا لم يأت وقد صارت الساعة الثانية عشرة ؟ هل سمعتم أن أهل ميت مات عصراً وعند الساعة الثانية عشرة تفقدوه لماذا لم يأت ؟ لقد انتهى نهائياً ، بل إن أهله يصرّفون كل حاجاته، حتى لا يتذكروه هذا هو الوضع الصحيح لذلك فموضوع الموت خطير ، يقول شاب أنا في أول حياتي بعيد عني شبح الموت ، لكن الموت لا يعرف شاباً ، ولا شيخاً ولا صحيحاً ولا مريضاً ولا قوياً ولا ضعيفاً ، وسبحان من قهر عباده بالموت ، هذا الموضوع خطير ومهم ولصيق بأي إنسان ، قد تتكلم عن الزكاة فهو موضوع رائع ولكنك تقول : ليس لي علاقة بالموضوع فليس عندي أموال أملكها ، الموضوع دقيق وعميق وعليه أدلة ، لكن ليس لك علاقة به فأنت فقير ، قد نتكلم عن الحج والفقير ليس عليه حج ، أكثر الموضوعات تمس أناساً دون أناس إلا الموت . فهذا لا يستطيع قائل أن يقول أنا ليس لي علاقة ، هذا مصير كل إنسان ، وهو مصير محتوم .
ذهبت إلى أمريكا قبل أشهر فلفت نظري مقبرة وهناك أيضاً موت ، أينما تكونوا يدرككم الموت ، ومهما تكن أحوالكم يدرككم الموت ، فلو كنت في بحبوحة ورفاه ، وغنى ، فالإنسان مصيره إلى المقبرة .
فأول موضوع في الموت تناولته في حديثي النهي عن تمني الموت ، وهذا ‏هو الأدب مع الله عز وجل فقد أخرج الشيخان البخاري ومسلم

” عَنْ أَنَسٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ ، فَإِنْ كَانَ لا بُدَّ مُتَمَنِّيًا لِلْمَوْتِ فَلْيَقُلِ اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي “

أحياناً الموت يزيد الإنسان شراً لكنه يقول : يا رب توفني ، أحياناً الحياة تزيدك خيراً رواه الشيخان متفق عليه يا رب أحيني ، أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال عليه الصلاة والسلام :

” وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لا يَتَمَنَّين أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ ولا يَدْعُو بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ إِنَّهُ إِنْ مَاتَ أَحَدُكُمُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ وَإِنَّهُ لا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ من عُمْرُهُ إِلا خَيْرًا “

المؤمن كلما عاش يوماً ازداد عملاً صالحاً ، فممنوع على المؤمن أن يتمنى الموت ، بعضهم يدعو الله يقصف عمره هذه الدعوات كلها غير شرعية ، وإذا شخص دعا على نفسه بقصفان العمر فلا أحد يقول له أمين هذه غير لائقة ، وأخرج البخاري والنسائي رضي الله عنه قال : قال عليه الصلاة والسلام :

” عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ يَزْدَادُ وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ يَسْتَعْتِبُ “

طالما بقي وقت فالوقت فرصة للتوبة ، وهذه آية دقيقة جداً قال تعالى :

﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾

( سورة البقرة )

أنت مخير ، فهذه الوجهة من اختيارك ، من صنعك ، من تصميمك ، ولكل وجهة هو موليها ، والأمر فاستبقوا الخيرات ، أنت في وقت محدود وتتمتع في هذا الاختيار الذي هو سبب سعادتك ، إن دخلت إلى محل مجوهرات وقال لك صاحب المحل تفضل واختر ، فهذه فرصة وقد تجتر ألماسة ثمنها مائة وخمسون مليون دولار ، كونه سمح لك أن تختار فقد أعطاك فرصة كبيرة جداً لأخذ أثمن ما في هذا المحل أليس كذلك ؟ قال تعالى :

﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾

( سورة البقرة )

أنت في زمن محدود ، أنت بضعةُ أيامٍ مُنحتَ حرية الاختيار ، أكمل موقف أن تستبق الخير .
الآن ، قال تعالى :

﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾

( سورة البقرة )

في أي مكان وفي أية مكانة تكون .

لا تأمن الموت في طرف وفي نَفس  وإن تمنَّعت بالحجــاب والـحرس
فمـا تـزال سـهام المـوت نافذة  في جنــب مـدرع منها ومتـرس
أراك لسـت بوقّـاف ولا حــذر  كالحاطب الخابط الأعواد في الغلـس
ترجو النجاة ولم تسـلك مسـالكها  إن الســفينة لا تجري على اليبس

هناك رواية طريفة أنه كان في عهد سيدنا سليمان رجل يحضر مجلسه ، وملك الموت قَد وَفَدَ ، فملك الموت حدق فيه النظر ملياً ، فهذا الرجل قال له : من هذا الرجل الذي يحدق فيَّ ، قال له هذا ملك الموت ، فانخلع قلبه وقال له : أرجوك خذني إلى طرف الدنيا الآخر ، طبعاً هذه القصة رمزية ، سيدنا سليمان أوتي بساط الريح ، وسخرت له الريح فنقله إلى الهند إلى أقصى مكان ، بعد يومين مات هناك ، فالتقى هذا النبي الكريم بمِلكِ الموت فقال له : لماذا كنت تحدق النظر فيه ، فقال له : أُمرتُ بقبض روحه في الهند لكني رأيته عندك فاستغربت .
قال تعالى :

﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾

( سورة البقرة )

بأي مكان وبأي مكانة ، رواد الفضاء في مركبة المتحدي ، بعد سبعين ثانية كانت هذه المركبة كتلة من اللهب ، طبعاً هذا الصاروخ الذي يخرق الجاذبية يسير بأعلى سرعة صنعها الإنسان بعدما ارتفع قليلاً أصبح أشلاءً ومزقاً أول موضوع بالموت ممنوع تمني الموت ، وفي حديث آخر:

” عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لا تَمَنَّوُا الْمَوْتَ فَإِنَّ هَوْلَ الْمَطْلَعِ شَدِيدٌ وَإِنَّ مِنَ السَّعَادَةِ أَنْ يَطُولَ عُمْرُ الْعَبْدِ وَيَرْزُقَهُ اللَّهُ الإنَابَةَ “

الوقت فرصة للتوبة ، والشيخان أيضا أخرجا :

” قَالَ أَنَسٌ لَوْلا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ نهانا : لا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لَتَمَنَّيْتُهُ “

الإنسان أحياناً يكون مدمن خمر ويتوب ، يكون منحرفاً انحرافاً شديداً فيتوب ، التوبة وقعت في زمن فمعنى هذا أن الزمن خير ، لو مات قبل التوبة على هذه الحالة لكان في جهنم ، ذكرت لكم قبل أسابيع أن سيدنا عمرو بن العاص كان على فراش الموت فبكى بكاءً شديداً ، قال له ابنه : يا أبتِ : لقد بشرك النبي ، فلماذا هذا البكاء ، فقال له : كنت في وقت على ثلاثة أطباق ، الطبق الأول لم يكن في الأرض رجل أبغض إليَّ من رسول الله وما كنت أتمنى إلا أن أتمكن منه حتى أقتله ، فلو مت على هذه الحالة لكنت من أهل النار ، ثم جاء وقت دخل الإسلام إلى قلبي وآمنت برسول الله وأحببته حباً ما كان على وجه الأرض إنسان أحب إليه من رسول الله قال : فلو مت على هذه الحال لكنت من أهل الجنة ، ثم في مرحلة ثالثة كان فيها في حيرة من أمره .
على كل الإنسان أحياناً يكون مستحق النار ، فإذا عاش سنتين أو ثلاثاً وتاب إلى الله توبةً نصوحاً يقبل الله توبته ، قال لي أخ مرة : لا تتصور يا أستاذ معصية بذهنك إلا فعلتها إلا القتل ، ومن يعدُ تاب إلى الله وصلح دينه ، واستقام وصلحت وجهته إلى الله عز وجل .
أنا في حياتي الدعوية عندي معلومات كثيرة جداً عن أناس اقترفوا كل الكبائر ومع
ذلك فالله عز وجل في لحظة من اللحظات قبلهم ، إذا أعلنوا يميتهم قال تعالى :

﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾

( سورة الزمر )

“عن سيدنا سعد بن أبي وقاص ، أخرج المروزي عن القاسم مولى معاوية أن سعد بن أبي وقاص تمنى الموت ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع ، فقال عليه الصلاة والسلام : لا تتمنَّ الموت فإن كنت من أهل الجنة فالبقاء خير لك ، وإن كنت من أهل النار فما يعجلك إليها”

أحد حالين مؤمن أو غير مؤمن ، إذا كان مؤمناً كلما عشت يوماً ازداد عملك الصالح ، وإن كانت الثانية فلا بد إنها آتية .

” عن ابن عباس رضي الله عنه ، قال عليه الصلاة والسلام : لا يتمنَّ أحدكم الموت فإنه لا يدري ماذا قدم لنفسه “

والنبي دخل على بعض أصحابه وعمه العباس يشتكي :

” عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى الْعَبَّاسِ وَهُوَ يَشْتَكِي فَتَمَنَّى الْمَوْت، فَقَالَ : يَا عَبَّاسُ يَا عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ لا تَتَمَنَّ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتَ مُحْسِنًا تَزْدَادُ إِحْسَانًا إِلَى إِحْسَانِكَ خَيْرٌ لَكَ وَإِنْ كُنْتَ مُسِيئًا فَإِنْ تُؤَخَّرْ تَسْتَعْتِبْ خَيْرٌ لَكَ فَلا تَتَمَنَّ الْمَوْتَ قَالَ يُونُسُ وَإِنْ كُنْتَ مُسِيئًا فَإِنْ تُؤَخَّرْ تَسْتَعْتِبْ مِنْ إِسَاءَتِكَ خَيْرٌ لَكَ “

هذه بعض الأحاديث التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى الإنسان عن تمني الموت ، هذا أول موضوع من موضوعات الموت وعندنا موضوعات كثيرة عن الموت نتناول بعضها في الأسابيع القادمة إن شاء الله تعالى .

والحمد لله رب العالمين

الموت 2 ، توجيه النبي عليه الصلاة والسلام في ذكر الموت لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2000-01-02

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علماً و أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة الكرام :
لازلنا في موضوع الموت ، والموت أشد الأحداث واقعيةً في المستقبل ، ما من حدث في المستقبل أشد لصوقاً بالإنسان وأشد واقعيةً من الموت ، والتفكير في هذا الحدث الخطير تفكير جاد ، واقعي ، مهم جداً ، لنرى لماذا وجه النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه الكرام ؟ للإكثار من ذكر الموت ؟

” عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ يَعْنِي الْمَوْتَ “

أكثروا ليس الأمر منصباً على هاذم اللذات ، بل على الإكثار من ذكر هاذم اللذات ، وهذا الحديث صحيح والنبي عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وصيغة هذا الحديث مصدرةٌ بفعل أمر أكثروا .
وفي حديث آخر :

” أكثروا ذكر هادم اللذات ، فإنه ما ذكره أحد في ضيق العيش إلا وسعه عليه ، ولا في سعة إلا ضيقه عليه “

إن كنت غافلاً مع السعة ذكرك الموت بمغادرة الدنيا ، وإن كنت في ضيق مع القلة ذكرك الموت في الآخرة ، فتنسى ما أنت فيه ، الذي أتمناه على أخوتنا الكرام أن يفهموا أن الدين ليس كما يفهم كثير من الناس صومٌ وصلاة وحجٌ وزكاة ، بل والفهم السليم : أن الدين نهج تفصيلي ، لا أبالغ أنّ فيه عشرين أو ثلاثين ألف بند فهذه بنود الدين ، الذي يكثر من ذكر الموت إنسان يطبق سنة النبي ، يطبق منهج الله عز وجل ، والموت يأتي فجأةً ، بغتةً .

” عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ يَعْنِي الْمَوْتَ “

” أكثروا ذكر هاذم اللذات ، فإنه ما ذكره أحد في ضيق العيش إلا وسعه عليه ، ولا في سعة إلا ضيقه عليه “

السعة مع الغفلة علاجها التفكر بالموت ، والضيق مع اليأس علاجه التفكر بالموت ، فبالسعة يذكرك وفي الضيق يذكرك ، في السعة ينقذك من غفلتك وفي الضيق ينقذك من غفلتك .
إذا طالب لم يذكر الامتحان في أثناء العام الدراسي فقد أخطأ أما إذا ذكر الامتحان وقد وزعت الأوراق وقرع الجرس ووزعت الأسئلة فالمراقب والامتحان صار أمراً مصيرياً ، نجاح أو رسوب ، النجاح يعني نال رضى من حوله ونال بعض الميزات ، هذا الطالب الذي نال الدرجة الأولى على القطر سئل مرة بمَ نلت هذه الدرجة ؟ قال : لأن لحظة الامتحان لم تغادر ذهني ولا ساعة طوال العام الدراسي ، والمؤمن الصادق المتفوق مغادرة الدنيا لا تغادر ذهنه إطلاقاً فهو يعمل بدأب وليس فقط يعمل بل حتى إذا قامت الساعة يعمل ويستمر في عمله :

” عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ “

يعمل ويؤسس عملاً ويدرس وينال شاهدات ، و يتوظف ويشتري بيتاً ، ويتزوج ويسكن كل هذا لا علاقة له بالموت ، الموت يحميك أن تخطئ ، يمنعك من أن تعصي الله عز وجل ، يمنعك من أن تأخذ ما ليس لك ، الموت يمنعك أن تقف في طريق الإيمان ، الموت سور ودافع ، يدفعك إلى الله وسور يقيك الزلل والانحراف ، لذلك
” … فإنه ما ذكره أحد في ضيق العيش إلا وسعه عليه ، ولا في سعة إلا ضيقه عليه “

” عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ قَالَ : أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا قَالَ فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ قَالَ : أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْرًا وَأَحْسَنُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ اسْتِعْدَادًا أُولَئِكَ الأكْيَاسُ “

قد يكون مشتركاً في رحلة فيكتب كل حاجاته لكيلا ينسى شيئاً ثم يضع هذه الحاجات في المحفظة ، معه بطاقة السفر والجواز ، والمال اللازم وأرقام الهواتف اللازمة ، وبعض الألبسة ، والعدة التي يستعملها كل يوم ، معه كتاب يقرؤه ، آلة حاسبة يحسب عليها ، لقد كتب كل الحاجات عندئذٍ يمضي رحلة موفقةً ناعمةً ، والاستعداد من علامات العقلاء ، وأخطر حدث عند الناس الموت أما أن يسكن في بيت فهذا مهم وكذلك أن ، يعمر بيتاً ، وأن يزوج أولاده ، ولكن أخطر حدث على الإطلاق المغادرة ، ” الموت” و ما أدخله في حساباته ، فلذلك النبي الكريم عندما سئل

” … فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ قَالَ: أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْرًا وَأَحْسَنُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ اسْتِعْدَادًا أُولَئِكَ الأكْيَاسُ “

أولئك الأكياس أن تكثر ذكر الموت وأن تكثر من الاستعداد له ، بالتوبة وبالوصية و بالعمل الصالح ، بإنفاق المال ، بالدعوة إلى الله ، بالنهي عن المنكر الأمر بالمعروف ، بخدمة الخلق ، بالإكثار من العبادة ، نوافل العبادات طلب العلم ، قراءة القرآن ، أعقل الإنسان في مقياس النبي عليه الصلاة والسلام ، من أكثر ذكر الموت وأكثر الاستعداد له .

” عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ “

أخ كريم يعمل في عمل تكنولوجي معقد جداً ، وموفق جداً فقال لي مرة : معملٌ طلبني لأن عنده مشكلة في الحاسوب الآلي والحاسوب الصناعي فطلبت مبلغاً من المال فصاحب المعمل صعب ، فاستكثر المبلغ وبدأ يكثر من مشاحنته لتخفيض الأجرة ، فقال لي : تكلمت كلمة خطأً لكن وقتها ما انتبهت لها ، قال لصاحب المعمل : أنا لست بحاجة لك وأنت بحاجة لي عجبك ! هذا المبلغ ، كلمة فيها اعتداد ، فيها قسوة ، تحكم ، فصاحب المعمل أذعن له ، وقال له تفضل أصلح هذا الخلل ، قال في كل حياتي إصلاح الخلل نصف ساعة أو ثلاثة أرباع الساعة خبير خبرة عالية جداً ودارس في أعلى البلاد وقد تفوق في هذا الموضوع ، ثم مضت ساعة ساعتان خمس ساعات ثماني ساعات الطريق مغلق ، ثاني يوم ثماني ساعات الطريق مغلق ، ثالث يوم لا زال الطريق مغلقاً أقسم بالله ثمانية أيام ، فلم يعد الأجر موافقاً للمدة ولا مائة ضعف المبلغ ، كان ترتيبه نصف ساعة وتنتهي العملية ، لكن الالتزام بإصلاح الخلل لا بالوقت ، بعد ثمانية أيام توقفت عن العمل ، قلت لأراجع نفسي لعل هناك مشكلة يبدو أن دينه جيد فاعتذر من صاحب المعمل و خلا بنفسه و حاسب نفسه أي ذنب ارتكبته حتى سد علي باب إصلاح هذا الخلل ؟ إلى أن اهتدى إلى هذه الكلمة التي قالها باعتزاز و اعتداد ، إذ قال له : أنت بحاجة إلي إن شئت فهذا هو المبلغ فاستغفر الله عز وجل و تاب إليه و دفع صدقة تكفيراً لذنبه ، ثم قال و الله في اليوم التاسع أو العاشر أقسم بالله بأقل من ربع ساعة انتهى الموضوع و تم إصلاح الخلل .
حاسب نفسك ، ما من عثرة و لا اختلاج عرق و لاخدش عود إلا بما قدمت أيديكم و ما يعفو الله عنه أكثر .
فالكيس من دان أي حاسب نفسه و عمل لما بعد الموت ، و العاجز من أتبع نفسه هواها و تمنى على الله الأماني ، هذا حال المسلمين اليوم يتبعون أنفسهم هواها وهناك دعاء يرددونه : يا رب ارحمنا ، يا رب أغفر لنا ذنوبنا ، يا رب نحن عبيد إحسان لسنا عبيد امتحان ، يا رب لا يسعنا إلا فضلك ، هذا كلام فارغ لأنه لا استقامة و لا انضباط و لا نية بالتوبة ، بل أحدهم مقيم على ما هو عليه و بلسانه يسترضي الله عـز وجل و الاسترضاء يكون بالعمل لا باللسان .
عن أنس رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أكثروا ذكر الموت فإنه يمحص الذنوب ويزهد في الدنيا ، فإن ذكرتموه عند الغنى هدمه ، وإن ذكرتموه عند الفقر أرضاكم بعيشكم .
الغني بعد ثوانٍ صار خبراً على الجدران كل ممتلكاته انتقلت لغيره ، بالإضافة إلى حاجاته الخاصة ، له خزانة صغيرة في البيت فيها بعض الهدايا الثمينة التي أهديت إليه يوماً ، يؤخذ المفتاح ، وتفتح مركبته ما كان يعيرها لأحد تركب من بعده ، بيته يُسكن من بعده ، امرأته قد تتزوج من بعده ، أولاده بعد حين ينسونه فلا بد من التفكر بالموت ، الإنسان حينما يؤمن بالله عز وجل ويصطلح معه فالموت لا يرعبه كثيراً ، الإنسان يخاف الموت بقدر ذنوبه، والدليل قال تعالى :

﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾

( سورة الجمعة )

علامة أن تكون مع الله في أحسن حال ألّا تخاف الموت ، علامة أنك مؤمن ولك عمل طيب أنك لا تخشى الموت ، أما الظالم يكره الموت ، ”
….أكثروا ذكر الموت فإنه يمحص الذنوب ويزهد في الدنيا ، فإن ذكرتموه عند الغنى هدمه ، وإن ذكرتموه عند الفقر أرضاكم بعيشكم ”
ومر عليه الصلاة والسلام بمجلس قد استعلاه الضحك ، فقد ترى جلسة بنزهة فيها ضحك غير معقول ، ضحكة درج ، صوت مرتفع وحركة وتمطٍ ، وتعليقات .
قال : هؤلاء لو عرفوا ما أمامهم لما ضحكوا هذا الضحك ، لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً .
أن يعلم الإنسان أن أمامه سؤالاً فهذا ضروري ، والحساب دقيق ، وأمامه جنة أو نار إلى الأبد ، شيء مخيف ، شيء مصيري .
سيدنا عمر يقول : عجبت لمؤمل والموت يطلبه ، وغافل وليس بمغفول عنه ، وضاحك ملء فيه لا يدري أساخط عنه الله أم راضٍ .
مر عليه الصلاة والسلام بمجلس قد استعلاه الضحك فقال عليه الصلاة والسلام : شوبوا مجلسكم بمكدر اللذات .
الذين تجاوزوا الأربعين أو الخمسين في الأعم الأغلب أكثر أبناء جيله نصفهم تحت الأرض ، قد يموت إنسان بالتسعين ، بالمائة ، وأنت في الخمسين تقول بيننا وبينه أمدٌ بعيد ، أما حينما يموت أقران الإنسان ، و من هم في سنه ، من هم في مستواه ، فالقول الحق أنتم السابقون ونحن اللاحقون ، لذلك من دخل الأربعين دخل في أسواق الآخرة ، نحن في رحلة فإذا مضى ثلثا الوقت فالوقت المتبقي يخصص للاستعداد للعودة ، سافر إلى أي مكان ، فالرحلة عشرة أيام وبعد اليوم السابع تفكر في العودة ، في قطع التذاكر ، في جمع الأغراض، في شراء الهدايا ، في اختيار المركبة المناسبة ، بعد اليوم السابع التفكير ينعكس ، كيف نعود؟ و من دخل في الأربعين دخل في أسواق الآخرة .
و لحكمة بالغة بالغة أرادها الله ، أنواع الموت لا تعد و لا تحصى ، من موت بلا سبب إطلاقاً ، إلى مرض يدوم ثلاثين سنة طريح الفراش يعني بأعلى درجات القوة يموت ، اليوم ذكرت مثلاً في جامع الطاووسية ولقي المثل وقعاً حسناً ، تصورنا سباق سيارات في طريق عريض، عشرة مسارب وهناك ألف سيارة للسباق بأنواع مختلفة من أكبر الحجوم إلى أصغر الحجوم ، من أغلى الماركات إلى أصغر الماركات من أقوى المحركات إلى أضعف المحركات ، كل هذه السيارات الألف تتسابق ، هذا الطريق العريض الذي فيه عشرة مسارب ينتهي بجدار خمسين متر ، السيارة الأولى نزلت ، الثانية نزلت ، الثالثة نزلت ، الضعيفة نزلت ، الغالية نزلت ، الرخيصة نزلت ، آخر واحدة نزلت ، أجّل واحدة نزلت ، هذا لم يعد سباقاً ، هذا مثل سباق الدنيا .
الغني يموت ، الفقير يموت ، القوي يموت ، الضعيف يموت ، الذكي يموت ، الأحمق يموت ، الكافر يموت ، كلهم يموت .
قالت له أخاف أن أموت من هذا الطبيب فقال لها : طبعاً ستموتين وأنا سأموت ، رجل سأل طبيباً : نسبة نجاح العملية كم ، قال له : بالمائة ثمانين ، قال له : كيف ، قال : إذا أجرى العمليةَ عشرةُ أشخاص فيموت اثنان ، فقال : لا أريد لأني : أريد بالمائة مائة ، فقال : لو كانت النتائج بالمائة مائة لما مات أحد .
أحياناً لأتفه سبب عملية لوزات يموت منها الإنسان ، إنسان بمنصب رفيع جداً كل أطباء النسائية تحت يده موظفين عنده ، وله زوجة قال بأول ولد فظل شهراً وهو يبحث عن أمهر طبيب ، له سمعة طيبة أخلاقه عالية وخبرته طويلة ، فاستقر رأيه أخيراً على أحد الأطباء فكانت منيتها على يديه أثناء الولادة ، وأحياناً بدوية يأتيها المخاض وهي في الطريق وتلد وتقطع الخلاص بحجرين .
الموت عجيب قد يفاجئ الشاب وهو بالخمسة عشرة ، أعرف أسرة مات لها أول ابن في الثانية والعشرين والثاني في الثالثةِ والعشرين ، شابان في هذه الأسرة توفيا في حادث سير ، كل إنسان له منية ، العاقل هو الذي يستعد لهذا الحدث الذي لابد منه ، حينما رأى النبي هذا المجلس قد أخذه الضحك وقال : شوبوا مجلسكم بمكدر اللذات ، قالوا يا رسول الله وما مكدر اللذات ، قال الموت .
دخل الموت في الحسابات ، ذهبت إلى بيروت ذات مرة فلفت نظري محل تجاري ، أغرب محل رأيته في حياتي ، يبيع لوازم الموتى ، فليس عنده ولا زبون ، يبدو أن ذوي الكنائس والمساجد الذين يتعاملون مع تكفين الميت يذهبون إلى هناك ليشتروا الحاجات ، والإنسان يريد بضاعة يستعملها وهو حي .
” وحدثنا شيخ قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى رجلاً فقال : أكثر ذكر الموت يسليك عما سواه ” العوام لهم كلمات لها معنى عميق ، ” إذا ضاقت عليكم الصدور عليكم بزيارة القبور” ، فأنا أنصح كل أخ بأن يزور مستشفى ومقبرة ، يرجع مرتاح النفس ، كل مريض له وضع لا يُحتمل وأنت معافى ، وليس من إنسان مات إلا بدفتره جدول أعمال ، فهناك إنسان عنده تسعون بنداً مثلاً وآخر أكثر أو أقل ، وجاءه الموت قبل إنجاز هذا كله .
النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا أنس من أصحابه غفلةً ، نادى فيهم بصوت رفيع ، أتتكم المنية راتبةً لازمةً إما شقاوة وإما سعادة .
أنا أقول لكم إذا الإنسان نفسه بالتعبير الدارج قرنت عليه ، تعلقت بالدنيا وأبت أن تنصاع لأمر الله ، فالموت أفضل علاج لها ، لي صديق توفي بحادث فأحببت أن أراه في المستشفى بعد أن وضع بالبراد ، فقلت لطبيب صديقي هناك : أريد أن أشاهده ففتح الباب فهالني المنظر رفوف رفوف ، صواني ستانلس كلها معبأة بأشخاص عرفت من لباسهم أنهم أغنياء ، أو فقراء ، أو أصحاب أعمال حرة .
مرة في طريقي إلى المغرب وفي الطائرة مررت بتونس فلا بد من انتظار ساعة في المطار ، وبينما أنا جالس قرب النافذة في مواجهة مدخل البضائع والأمتعة فلم ألبث أن فوجئت بنعش ، له أوراق تخليص فكان شخصاً فصار بضاعة ، وله أوراق يخلص كما تخلص البضاعة .
النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا أنس من أصحابه غفلةً ، نادى فيهم بصوت رفيع ، أتتكم المنية راتبةً لازمةً إما شقاوة وإما سعادة .
أعرف رجلاً ما رأيته ولكن سمعت عنه ، كان على مستوى من الأناقة والذوق ما يفوق حد الخيال ، دخلت إلى بيته بعد وفاته ، فابنه صديقي ، فرأيت ما لا يوصف : التزيينات والثريات ، الأجنحة الشرقية ، الأجنحة الغربية ، اللوحات ، الفازات ، كل فاز ارتفاعه ثلاثة أمتار ، بالملايين ثمنه ، هو يبيع تحفاً ، توفي في أيام مطيرة جداً فلما أخذ ليدفن ، فكان القبر تنسلط عليه سياقات من المياه السوداء ، قال لي مدير معمله بقيت أسبوعاً لم آكل الطعام لسوء المنظر! و هناك وضعوا معلمي الأنيق ، صاحب الذوق ، الذي أدواته تلفت النظر ، حاجاته الشخصية ، فرش بيته قبر في مياه سوداء سألوا ابنه قال لهم : ضعوه ماذا نفعل .
شخص عمّر فيلّا شاهدته سنة الأربع والسبعين بحلب ، الفيلّا كِلفتها سنة الأربع والسبعين خمسةٌ وثلاثون مليون ، فيها رخام ( أونكس) بخمس ملايين ، طبعاً المهندسون الذين عمروها أجانب ، قطعة من عجائب الدنيا ، مات صاحبها بالثانية والأربعين ، وهو طويل القامة وكان القبر لحكمة أرادها الله قصير ، فلما وضعوه ما اتسع لحجمه ، فماذا يفعلون ؟ جاء الحفار فدفعه بصدره فصار رأسه مطوياً على جسده .
الإنسان بحياته كم حفار ؟ إذا كان منعماً فعنده حفار غرفة النوم ، يريد حفرة ناعمة ، مظللة ، معتقة ، وآخر حفار بحياته حفار القبر ، مرة دفنا أخاً كريماً ، لكن أعرفه أنيقاً جداً وضعوا البلاطة وظل فراغ أربعة سم عندما أهالوا التراب بالمجرفة نزل فوقه كيلوات من التراب .
هذا من باب الحقيقة الثابتة ، بعد مائة عام ، الله يطول أعماركم كلكم ، ويمتعكم بصحتكم وأولادكم ، ويرزقكم عملاً صالحاً ، ولكن بالنهاية نموت كلنا ، بعد مائة سنة من الآن هل ترون أحداً منا جالس هنا ، ولا واحد كلنا تحت أطباق الثرى مرهونون بأعمالنا ، الإنسان لابد ميت ، قال تعالى :

﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾

(سورة الزمر)

ذات مرة والله لن أنسى هذا الموقف وأذكره لكم الآن كنت في مكان فجرى حديث ديني، شخص أعجب بهذا الحديث فدعانا إلى سهرة ، واتفقنا كل أسبوع عند كل واحد سهرة لطيفة ، هذا الرجل منعم ، تاجر كبير عنده معامل ، وفي بيته أناقة غير معقولة شخص ذواقة، موضوع طويل لا يهمنا ، الذي يهمنا أنه بأحد الأيام خرج من معمله إلى البيت فنسي أين بيته، تذكر بيت ابنه فذهب إليه وقال له : يا بني أين بيتي ؟ أصابه فقدان ذاكرة جزئي ، بعد حين خبرني ابنه وقائلاً إن والدي توفي ، فذهبت إلى بيتهم له شيخ من علماء الشام الكبار المحترمين ، طبعاً قدم شيخه ليلقي كلمة قبل أن يصلى عليه ، توقعت كلمة ربع ساعة فقال :
أخوانا الكرام أخوكم أبو فلان ، ترحموا عليه كان مؤذناً .
أنا تصورت أنه سيتكلم عنه ساعة ، لروعة بيته ، معمله فسيتكلم عنه ساعتين ، فقد صمت بيته ورحلاته ، أناقة فرشه ، أذواقه بالطعام ، هذا كله لا يتكلم عند الموت ، لا يتكلم إلا العمل الصالح ، قال شيخه : وكان كلما جاء إلينا أدعوه ليؤذن بدلاً من مؤذن هذا المسجد ، فقد كان صوته حسناً .
ما نوع بيتك ، يا ربي فيه جبصين يأخذ العقل ، هل تستطيع أن تتكلم هذا يوم الأجر ؟ لا تتكلم في القبر ، كنت أملك ثلاث سيارات واحدة للسفر وازنة ، وواحدة للمدينة خفيفة من أجل أن أصُفَّها في أي مكان ، وواحدة للمعمل ، هل يتكلم هذا يوم الأجر ، عندي أرصدة وأموال منقولة وغير منقولة ، أنا عندي معمل له ثلاثة خطوط هاتف ، أو خمسة خطوط ، لا يسمح لك إلا أن تقول شيئاً إلا العمل الصالح .
كان عليه الصلاة والسلام إذا أحس من الناس بغفلة ، جاء فأخذ بزاوية الباب ثم هتف ثلاثـاً يا أيها الناس ، يا أهل الإسلام أتتكم المنية راتبةً لازمةً ، جاء الموت بما جاء به ، جاء بالروح والراحة والكثرة المباركة لأولياء الرحمن ، من أهل الخلود هم الذين كان سعيهم ورغبتهم فيها ، ألا وإن لكل ساع غايةً وغاية كل ساع الموت ، سابق ومسبوق .
النبي الكريم عليه أتم الصلاة والتسليم يقول :

كفى بالموت واعظاً .

أكثرُ شيءٍ يؤلمني أن الناس الذين يمشون بالجنازة حديثهم عن الدنيا وما فيها ، مرة مشيت في جنازة فأكثر شيء آلمني أن اثنين جنبي يتحدثان عن العقد الفلاني والصفقة الفلانية، وفلان خصم عليّ مبلغاً وأنا أريد أن أخصم عليه ، الميت أمامك وحديثك مِن مكان الخروج وإلى المقبرة حول الحسابات والتجارات والصفقات .
يقول سيدنا سعد ثلاثة أنا فيهن رجل وفيما سوى ذلك أنا واحد من الناس من هذه الثلاثة ، ما سرت في جنازة فحدثت نفسي بغير ما تقول حتى أنصرف منها .
هناك طرفة : إنسان سأل فقيهاً فقال له : أين أمشي وأنا أشيع الجنازة أأمشي أمامها أم خلفها أم عن يمينها أم عن شمالها ؟ فقال هذا الفقيه مداعباً لا تكن في النعش وسر أينما شئت.
إذا مات شخص فالبقية لديهم بحبوحة ، أفسح لهم في أجلهم ، أنت حينما تستيقظ يعني أن الله سمح لك أن تعيش يوماً آخر ، ما‏‎ من يوم ينشق فجر إلا وينادي منادٍ يا ابن آدم أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد فتزود مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة .
مرة زرت كلية الطب ، وبدافع الفضول أردت مع بعض صحبي أن نشاهد المكان الذي يجري فيه تشريح الأموات ، قال لي الآذن هنا مصنع عال مملوء بمادة معينة ، فيه ما بين عشرين إلى ثلاثين جثة ، ضمن المحلول ، فهذا ظاهرة يده وذاك رجله وهناك رأس بارز ، هم مغطّسون بمحلول لكن الذي لفت نظري عَصاً فيها شنكل ، فقلت: لمَ هذه ؟ فقال : من أجل أن يسحبوا بها الموتى واحداً واحداً !
فهذا الميت مثلاً كان شخصاً ، له بيت ، وأولاد ، وزوجة ، كان يخيف أحياناً ، أو كان جميل الصورة ، كان له طعام خاص يحبه ، كان له جلسات ، قام بنزهات كثيرة فأين هذه النزهات ؟ بالعصا ذات الشنكل سحبهُ ورفعه !
مشاهد الموتى مفيدة جداً ، لو مَرّت جنازة و لا تعرف صاحبها اتبعها فعندما يفتحون النعش ، ويحملون الميت ، ترى كيف : التفت الساق بالساق ويدخلونه إلى القبر ويضعون الرقاقة ، وانتهى . هذا مصير كل واحد .
مرة حضرت تغسيل ميت ، فالمغسل بعد أن انتهى وكفنه ، جاء بقطعة قماش قطعها بأسنانه فصارت طويلة أنزلها بالماء من أجل أن تمسك جسد الميت ولف رجليه ، وشدها وعقدها بحيث لا تنفك عنه حتى تبلى ، هذا معنى قوله تعالى :

﴿وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ﴾

( سورة القيامة )

خلال خمس وثلاثين سنة ما صلى فرض صلاة ، ولا حج ولا اعتمر وترك خمسة آلاف مليون ، وكان في بلاد الحجاز مقيماً في جدة ووافته المنية هناك .
فالإنسان إذا عاش من دون هدف أحمق ، فالذي يجمعه في حياته كلها يأخذه الموت في ثانية واحدة ، يوجد سلطان ظالم غشوم ، أحب أن ينتقم من شيخ النجارين ، فطلب منه شيئاً فوق طاقته ، قال له أريد منك مائة كيس نخالة أو نشارة ، فلا يجتمع له ذلك ولا بسنتين ، أو يقتله هذا الملك فَهِمَ النجار أنه مقتول فكتب وصيته وودع أولاده ، و في الفجر طرق الباب فقبّل أولاده ، لأنه ظن أنه مقتول لا محالة ، فقيل له الملك مات نريد أن تصنع له نعشاً .
سبحان من قهر عباده بالموت ، الإنسان لا يعرف متى يموت ، كيف يموت ، وهناك شخص غادر إلى أمريكا بمهمة رسمية وفي المطار وهو جالس على كرسي في المطار فارق الحياة ، سافر عشرين ساعة في الجو ليموت في مطار واشنطن ، شاب خطب فتاة مات ! وترك أموالاً طائلة ولم يعقد العقد ، فهي تمنت لو أنه قد كتب الكتاب لكان لها أموال طائلة .

قيل يا رسول الله هل يحشر مع الشهداء أحد ؟ قال : نعم من يذكر الموت في اليوم والليلة .

وقال تعالى :

﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾

( سورة الملك )

أحسن عمل ، قال أكثركم بالموت ذكراً وأحسنكم له استعداد ، وأشدكم خوفاً وحذراً .
رجل جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال يا رسول الله : مالي لا أحب الموت ؟ قال : ألك مال ، قال : نعم ، قال : قدمه أمامك فإن قلب المؤمن مع ماله إذا قدمه أحب أن يلحق به، وإن أخره أحب أن يتأخر معه .
إذا إنسان يائس من بلد ، باع البيت وحَوّله للخارج ، باع السيارة وحولها باع المعمل وحوله ، ولم يدع شيئاً ، بعد أن حول أمواله قدم جواز السفر ليأخذ سمة خروج وفي المطار أخذ بالصعود وإلى الطائرة ، وأنا أعتقد أن هذا الإنسان الذي بهذه الصفات أسعد لحظات حياته عندما ركب سلم الطائرة ، لأنه قدم ماله أمامه ، وكذلك المؤمن إذا قدم ماله أمامه ، سره اللحاق به ، والذي خَلَّفه وراءه آلمه فراقه ” ..فإن قلب المؤمن مع ماله إذا قدمه أحب أن يلحق به ، وإن أخره أحب أن يتأخر معه .
وكان أبو الدرداء رضي الله عنه قال : كفى بالموت واعظاً ، وكفى بالدهر مفرقاً ، اليوم في الدور وغداً في القبور .
انظر غرفتك أربعة في أربعة والسقف ثلاثة ونصف مدهن ، معلقة به ثريا مقعد وثير ، هاتف ، سرير مريح ، غرفة الطعام ، غرفة الضيوف ، مطبخ ، حمام ، المائة متر سوف تصبح خمسة وستين سم عرضاً بمائة وثمانين سم طولاً ، لا يوجد دهان ولا رخام ولا سيراميك ، ولا ألمنيوم ولا برونز ولا شيء بل على الأرض .
سيشيع إلى مثواه الأخير ، وما أكثر عبد ذكر الموت إلا ترك الفرح والحسد ، ومن أكثر من ذكر الموت قل فرحه وقلَّ حسده ، وكفى بالموت مزهداً في الدنيا مرغباً في الآخرة .
وقال النبي الكريم لأحد أصحابه : استعد للموت قبل الموت ، مرة قرأت كلمة في مدينة فاس في المغرب ، فيها منطقة إسلامية وشوارع ضيقة ، ومسجد مشهور جداً ، مكتوب على بعض المحلات صلِّ قبل أن يصلى عليك .
بعض العلماء يقول :

ما أحد ينزل الموت حق منزلته  إلا عبد عد غداً ليس من أجله كم
من مسـتقبل يـوماً لا يستكمله  و كــم مـِنْ راجٍ غداً لا يبلغه
إنـك لو تـرى الأجل ومسير ه لأبغضـت الأمـل و غـروره

وقال بعض العلماء : انظر : فالذي تحب أن يكون معك في الآخرة فقدمه اليوم ، وانظر الذي تكره أن يكون معك في الآخرة فاتركه اليوم واخرج عنه ، وكل عمل كرهت الموت من أجله فاتركه ، ثم لا يضرك متى مت .

والحمد لله رب العالمين

Leave a comment